كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال القشيري: وحصل الإجماع على أنه عليه السلام سمع تلك الليلة كلام الله تعالى ولو كان ذلك نداء الشجرة لكان المتكلم الشجرة وقال التفتازانيّ: في شرح المقاصد إنّ اختيار حجة الإسلام أنه سمع كلامه الأزليّ بلا صوت ولا حرف كما ترى ذاته في الآخرة بلاكمّ ولا كيف.
واختلف في الشجرة ما هي؟ فقال ابن مسعود: كانت سمرة خضراء، وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت عوسجة، وقال وهب: من العليق، وعن ابن عباس أنها العناب، ثم ذكر المنادى به بقوله تعالى: {أن يا موسى} فأَنْ هي مفسرة لا مخففة {إنّي أنا الله} أي: المستجمع للأسماء الحسنى والصفات العليا، وفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون ثم وصف نفسه سبحانه تعالى بقوله: {رب العالمين} أي: خالق الخلائق أجمعين ومربيهم، قال البيضاوي: هذا وإن خالف ما في طه والنمل في اللفظ فهو طبقه في المقصود انتهى، وقال ابن عادل: واعلم أنه تعالى قال في سورة النمل {نودي أن بورك من في النار ومن حولها}.
وقال هاهنا {إني أنا الله رب العالمين} وقال في سورة طه {إني أنا ربك} ولا منافاة بين هذه الأشياء فهو تعالى ذكر الكل إلا أنه تعالى حكى في كل سورة ما اشتمل عليه ذلك النداء، ثم إنّ الله تعالى أمره أن يلقي عصاه ليريه آية بقوله تعالى: {وأن ألق عصاك} أي: لأريك فيها آية فألقاها فصارت في الحال حية عظيمة وهي مع عظمها في غاية الخفة {فلما رآها} أي: العصا {تهتز} أي: تتحرّك كأنها في سرعتها وخفتها {جانّ} أي: حية صغيرة {ولى مدبرًا} خوفًا منها ولم يلتفت إلى جهتها وهو معنى قوله تعالى: {ولم يعقب} أي: موسى عليه السلام وذلك كناية عن شدّة التصميم على الهرب والإسراع فيه خوفًا من الإدراك في الطلب فقيل له {يا موسى أقبل} أي: التفت وتقدّم إليها {ولا تخف} ثم أكد له الأمر لما الآدميُّ مجبول عليه من النفرة وإن اعتقد صحة الخبر بقوله تعالى: {إنك من الآمنين} أي: العريقين في الأمن كعادة إخوانك من المرسلين فإنه لا يخاف لديّ المرسلون ثم زاد طمأنينة بقوله تعالى: {اسلك} أي: ادخل على الاستقامة مع الخفة والرشاقة {يدك في جيبك} أي: القطع الذي في ثوبك وهو الذي يخرج منه الرأس أو هو الكم كما يدخل السلك وهو الخيط الذي ينظم فيه الدرّ {تخرج بيضاء} بياضًا عظيمًا يكون له شأن خارق للعادات {من غير سوء} أي: عيب من أثر الحريق الذي عجز فرعون عن مداواته أو غيره فخرجت ولها شعاع كشعاع الشمس يعشي البصر تنبيه: قد ذكر هذا المعنى بثلاث عبارات إحداها هذه وثانيتها: {واضمم يدك إلى جناحك}.
وثالثتها: {وأدخل يدك في جيبك}.
{واضمم إليك جناحك} أي: يديك المبسوطتين تتقي بهما الحية كالخائف الفزع بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس، أو بإدخالهما في الجيب فيكون تكريرًا لغرضٍ آخر وهو أن يكون ذلك في وجه العدو أظهر جراءة ومبدأ لظهور معجزة ويجوز أن يراد بالضم التجلد والثبات عند انقلاب العصا حية استعارة من حال الطائر لأنه إذا خاف نشر جناحيه وأرخاهما وإذا أمن واطمأن ضمهما إليه، ومنه ما يحكي عن عمر بن عبد العزيز: أن كاتبًا له كان يكتب بين يديه فانفلتت منه فلتة ريح فخجل وانكسر فقام وضرب بقلمه الأرض فقال له عمر: خذ قلمك واضمم إليك جناحك وليفرخ روعك فإني ما سمعتها من أحد أكثر مما سمعتها من نفسي.
ومعنى قوله تعالى: {من الرهب} من أجل الرهب أي: إذا أصابك الرهب عند رؤية الحية فاضمم إليك جناحك تجلدًا وضبطًا لنفسك، جعل الرهب الذي كان يصيبه سببًا وعلة فيما أمر به من ضم جناحه إليه، قال الفراء: أراد بالجناح العصا ومعناه اضمم إليك عصاك، قال البغويّ: وقيل الرهب الكمّ بلغة حمير، قال الأصمعي: سمعت بعض الأعراب يقول أعطني ما في رهبك أي: في كمك ومعناه اضمم إليك يدك وأخرجها من الكمّ لأنه تناول العصا ويده في كمه انتهى، قال الزمخشريّ معترضًا هذا القول:
ومن بدع التفاسير أن الرهب الكمّ بلغة حمير وأنهم يقولون أعطني ما في رهبك وليت شعري كيف صحته في اللغة وهل سمع من الأثبات الثقات الذين ترضى عربيتهم ثم ليت شعري كيف وقعه في الآية وكيف تطبيقه المفصل كسائر كلمات التنزيل على أن موسى عليه السلام ما كان عليه ليلة المناجاة إلا زرمانقة من صوف لا كمين لها. انتهى.
ويحتمل أن يكون لها كمّ قصير فمن نفى نظر إلى قصره ومن أثبت نظر إلى أصله وحينئذٍ لا تعارض، وفي البغوي عن ابن عباس: أن الله تعالى أمره أن يضم يده إلى صدره ليذهب عنه الروع وما ناله من الخوف عند معاينة الحية وقال: وما من خائف بعد موسى عليه السلام إلا إذا وضع يده على صدره زال خوفه، وقال مجاهد: وكل من فزع فضمّ جناحه إليه ذهب عنه الفزع، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الراء والهاء وحفص بفتح الراء وسكون الهاء، والباقون بضمّ الراء وسكون الهاء، والكل لغات، ولما تم كونه آية بانقلابها إلى البياض ثم رجوعها إلى لونها قال الله تعالى: {فذانك} أي: العصا واليد البيضاء، وشدد ابن كثير وأبو عمرو النون، وخففها الباقون {برهانان} أي: سلطانان وحجتان قاهرتان مرسلان {من ربك} أي: المحسن إليك لا يقدر على مثلهما غيره {إلى فرعون وملإيه} أي: وأنت مرسل بهما إليهم كلما أردت ذلك وجدته لا أنهما يكونان لك هنا في هذه الحضرة فقط، فإن قيل لم سميت الحجة برهانًا؟
أجيب: بأنّ ذلك لبياضها وإنارتها من قولهم للمرأة البيضاء برهرهة بتكرير العين واللام معًا والدليل على زيادة النون قولهم أبره الرجل إذا جاء بالبرهان ونظيره تسميتهم إياها سلطانًا من السليط وهو الزيت لإنارتها، ثم علل الإرسال إليهم على وجه إظهار الآيات لهم واستمرارها بقوله: {إنهم كانوا} أي: جبلة وطبعًا {قومًا} أي: أقوياء {فاسقين} أي: خارجين عن الطاعة فكانوا أحقاء أن يرسل إليهم، ولما قال تعالى: {فذانك برهانان}. إلى آخره تضمن ذلك أن يذهب موسى بهذين البرهانين إلى فرعون وقومه فعند ذلك طلب من يعينه بأن {قال رب} أي: أيها المحسن إليّ {إني قتلت منهم نفّسًا} هو القبطي السابق وأنت تعلم أني ما خرجت إلا هاربًا منهم لأجلها {فأخاف} إن بدأتهم بمثل ذلك {أن يقتلون} به لوحدتي وغربتي وثقل لساني في إقامة الحجج فأخاف أن يفوت المقصود بقتلي ولا يحمي من ذلك إلا أنت وإنّ لساني فيه عقدة.
{وأخي هارون هو أفصح مني لسانًا} أي: من جهة اللسان للعقدة التي كانت حصلت له من وضع الجمرة في فيه وهو طفل في كفالة فرعون، وقيل كانت من أصل الخلقة والفصاحةُ لغةً الخلوص ومنه فصح اللبن خلص من رغوته وفصح الرجل جادت لغته، وأفصح تكلم بالعربية {فأرسله} أي: بسبب ذلك {معي رِدْءًَا} أي: معينًا من ردأت فلانًا بكذا أي: جعلته له قوّة وعاضدًا وردأت الحائط إذا دعمته بخشب أو كبش يدفعه أن يسقط، وقرأ نافع بنقل حركة الهمزة إلى الدال وحذف الهمزة، والباقون بسكون الدال وتنوين الهمزة بعدها، ولما كان له عليه من العطف والشفقة ما يقصر الوصف عنه نبه على ذلك بإجابة السؤال بقوله: {يصدّقني} أي: بأن يخلص بفصاحته ما قلته ويبينه ويقيم الأدلة عليه حتى يصير كالشمس وضوحًا فيكون مع تصديقه لي بنفسه سببًا في تصديق غيره لي.
وقرأ عاصم وحمزة بضم القاف على الاستئناف أو الصفة لردءًا والباقون بالسكون جوابًا للأمر، قال الرازي: ليس الغرض بتصديق هارون أن يقول له صدقت أو يقول للناس صدق موسى وإنما هو أن يخلص بلسانه الفصيح وجوب الدلائل ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار فهذا هو التصديق المفيد، وفائدة الفصاحة إنما تظهر في ذلك لا في مجرّد قوله صدقت، قال السدي: نبيان وآيتان أقوى من نبي واحد وآية واحدة وهذا ظاهر من جهة العادة وأما من جهة الدلالة فلا فرق بين معجز ومعجزين، ثم علل سؤاله هذا بقوله: {إني أخاف أن يكذبون} أي: فرعون وقومه ولساني لا يطاوعني عند المحاجة.
{قال} الله تعالى له مجيبًا لسؤاله {سنشدّ عضدك} أي: أمرك {بأخيك} أي: سنقويك ونعينك به {ونجعل لكما سلطانًا} أي: ظهورًا عظيمًا وغلبة لهم بالحجج والهيبة لأجل ما ذكرت من الخوف {فلا} أي: فتسبب عن ذلك أنهم لا {يصلون إليكما} بنوع من أنواع الغلبة {بآياتنا} أي: نجعل ذلك بسبب ما يظهر على أيديكما من الآيات العظيمة بنسبتها إلينا ولذلك كانت النتيجة {أنتما ومن اتبعكما} من قومكما وغيرهم {الغالبون} أي: لا غيركم وهذا يدل على أنّ فرعون لم يصل إلى السحرة بشيء مما هددهم به لأنهم من أكبر الأتباع الباذلين أنفسهم في الله تعالى وليس في القرآن ما يدل على أنه فعل بهم ما أوعدهم به.
قال البقاعي: وكأنه حذف أمرهم هنا لأنه في بيان أمر فرعون وجنوده بدليل ما كرّر من ذكرهم وقد كشفت العاقبة عن أنّ السحرة ليسوا من جنوده بل من حزب الله تعالى وجنده، ومع ذلك فقد أشار إليهم بهذه الآية والتي بعدها. اه ولما كان التقدير فأتاهم كما أمره الله تعالى وعاضده أخوه كما أخبر الله تعالى ودعاهم إلى الله تعالى وأظهرا ما أمرا به من الآيات بنى عليه مبينًا بالفاء سرعة امتثاله.
{فلما جاءهم} أي: فرعون وقومه ولما كانت رسالة هارون عليه السلام إنما هي تأييد لموسى عليه السلام أشار إلى ذلك بالتصريح باسم الجائي بقوله تعالى: {موسى بآياتنا} أي: التي أمرناه بها الدالة على جميع الآيات للتساوي في خرق العادة حال كونها {بينات} أي: في غاية الوضوح {قالوا} أي: فرعون وقومه {ما هذا} أي: الذي أظهرته من الآيات {إلا سحر مفترى} أي: مختلق لا أنه معجزة من عند الله ثم ضموا إليه ما يدل على جهلهم وهو قولهم {وما سمعنا} أي: ما حدّثنا {بهذا} أي: الذي تدعونا إليه وتقوله من الرسالة عن الله تعالى: {في آبائنا} وأشاروا إلى البدعة التي أضلت كثيرًا من الخلق وهي تحكيم عوائد التقليد لاسيما عند تقادمها على القواطع في قولهم {الأولين} وقد كذبوا وافتروا لقد سمعوا بذلك على أيام يوسف عليه السلام.
وما بالعهد من قدم

{فقد قال لهم الذي آمن} يا قوم أني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب إلى قوله: {ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات}.
{و} لما كذبوه وهم الكاذبون {قال} لهم {موسى ربي} أي: المحسن إليّ {أعلم} أي: عالم {بمن جاء بالهدى} أي: الذي أذن الله تعالى فيه وهو حق في نفسه {من عنده} فيعلم أني محق وأنتم مبطلون، وقرأ ابن كثير بغير واوٍ قبل القاف لأنه قاله جوابًا لمقالهم، والباقون بالواو لأنّ المراد حكاية القولين ليوازن الناظر بينهما ليميز صحيحهما من فاسدهما {ومن تكون له} أي: لكونه منصورًا مؤيدًا {عاقبة الدار} أي: الراحة والسكن والاستقرار، فإن قيل: العاقبة المحمودة والمذمومة كلتاهما يصح أن تسميا عاقبة الدار لأنّ الدنيا إما أن تكون خاتمتها بخير أو بشر فلم اختصت خاتمتها بالخير بهذه التسمية دون خاتمها بالشرّ؟.
أجيب: بأنّ الله تعالى قد وضع الدنيا مجازًا إلى الآخرة وأراد بعباده أن لا يعملوا فيها إلا الخير، وما خلقهم إلا لأجله ليبلغوا خاتمة الخير وأما عاقبة السوء فلا اعتداد بها لأنها من نتائج تخويف الفجار، وقرأ حمزة والكسائيّ بالياء على التذكير، والباقون بالتاء على التأنيث، ثم علل ذلك بما أجرى الله تعالى به عادته فقال معلمًا بأنّ المخذول هو الكاذب إشارة إلى أنه الغالب لكون الله تعالى معه مؤكدًا لما استقرّ في الأنفس من أنّ القويّ لا يغلبه الضعيف {إنه لا يفلح} أي: لا يظفر ولا يفوز {الظالمون} أي: الكافرون الذين يمشون كما يمشي من هو في الظلام بغير دليل.
{وقال فرعون} جوابًا لهذا الترغيب والترهيب {يا أيها الملأ} أي: الأشراف معظمًا لهم استجلابًا لقلوبهم {ما علمت لكم من إله غيري} فتضمن كلامه نفي إلهية غيره وإثبات إلهية نفسه فكأنه قال: ما لكم من إله إلا أنا كما قال الله تعالى: {قل أتنبؤن الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض} أي: بما ليس فيهنّ وذلك أنّ العلم تابع للموجود لا يتعلق به إلا على ما هو عليه فإذا كان الشيء معدومًا لم يتعلق به موجود فمن ثم كان انتفاء العلم بوجوده انتفاء لوجوده، فعبر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده، ويجوز أن يكون على ظاهره وأنّ إلهًا غير معلوم عنده ولكنه مظنون بدليل قوله: {وأني لأظنه من الكاذبين} وإذا ظنه كاذبًا في إثباته إلهًا غيره ولم يعلمه كاذبًا فقد ظنّ أنّ في الوجود إلهًا غيره ولو لم يكن المخذول ظانًا ظنًا كاليقين بل عالمًا بصحة قول موسى لقول موسى له.